الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

المقاوم الرمز، الحاج بحسين بويا

 حفيظ الإدريسي


استوقفت الشيخ نوحي، حول بعض من أولئك المعارف، فلم يتردد في ذكر شخصية غادرتنا منذ عامين في صمت رهيب.. قادني الفضول للاستفسار عن المقاوم الرمز، الحاج بحسين بويا، وبالأخص، في الشق المتعلق بانخراطه في صفوف رجالات التحرير بالجنوب المغربي.

ومن خلال رواية المقاوم إبراهيم نوحي، حاولت التمهيد لعمل تعريفي بالرجل، وفق نقطتين بارزتين؛ تعنى الأولى بعلاقة المرحوم الحاج بحسين بويا بالمقاوم نوحي، وتحوم الثانية حول طبيعة العلاقة التي تجمعه بشيخ العرب.

وقبل الحديث عن النقطتين، ومن باب الأمانة العلمية، نود أن نشير في مستهل هذا العمل، إلى أن الأستاذ الباحث محمد لومة، أورد صورة للمناضل بحسين بويا، ضمن قائمة أعضاء منظمة شيخ العرب، الذين برزوا خلال محاكمات 1964-1967 و1971، من خلال كتابه القيم: "المس بأمن الدولة من خلال محاكمة مراكش الكبراء: ثورة شعبية أم مناورة للتحريك؟ دراسة قانونية وسياسية وتنظيمية وأمنية"، (تقديم: النقيب عبد الرحمان بنعمرو والأستاذ الحبيب الفرقاني).


بين بويا ونوحي معزة عظيمة..

يقول المقاوم نوحي، بأنه قابل رفيقه في النضال، الحاج بحسين بويا، سنة 1984 بحي الموظفين، بمدينة أكادير. وكان اللقاء يتمحور حول قضية جيش التحرير بالجنوب المغربي، وبالضبط، علاقته بالمقاوم أحمد فوزي كوكليز (شيخ العرب).

أخبرني محدثي أنه تعرف على الشيخ بحسين سنة 1962، بشارع الفداء (درب السلطان)، بمدينة الدارالبيضاء. وكان صاحب سيارة تعليم "تاليوين" آنذاك.. كان محله يجاور محلي، "محل التقدم" لبيع السيارات المستعملة.

ويضيف، كانت اتصالاتي بالرجل منتظمة، وكانت علاقتنا المتميزة للغاية، لا تنطلق من كوننا أبناء إقليم واحد؛ فعلى الرغم من وجود العديد من أبناء الإقليم بدرب السلطان، وخاصة القادمين من إسافن، أكوليز وأقا... فإن معزة الرجل في قلبي عظيمة، وستزداد علاقتنا توطدا، لما علمت بأنه أحد معارف صديقي الغالي، شيخ العرب.

ضريبة الانتساب لمنظمة شيخ العرب

بما أن المرحوم أحمد فوزي في أمس الحاجة إلى وسائل النقل والتنقل، فإنه وجد في وفي الحاج بويا، خير سند له ولتنظيمه، وبالخصوص، حينما قامت الدولة بمضايقته، والبحث عنه لإعدامه بموجب حكم الإعدام الصادر عن محكمة تارودانت سنة 1960.

لقد ساند الراحل بويا التنظيم السري لشيخ العرب، منذ سنة 1962 إلى غاية 1964 بالدعم المادي، لكنني لست على علم يقين عما إذا كان الرجل قد شارك ميدانيا في عمليات التنظيم، يقول الشيخ إبراهيم نوحي.

وأضاف، بأن ذاكرته تحتفظ بذكريات كثيرة، منها أن الرجل اشترى سيارتين لمنظمة شيخ العرب من ماله الخاص، من نوع "شيقرولي وبيجو 203"، ومنها أن بويا خفف عنه عبء المسؤولية الثقيلة التي حمله إياها شيخ العرب.

بتهمة حيازة السلاح والذخيرة، وفي إطار منظمة شيخ العرب، ألقي القبض على الحاج بحسين بويا، وحوكم سنة 1971 في إطار محاكمة مراكش المشهورة... قضى الرجل في سجن القنيطرة زهاء أزيد من عشر سنوات.





الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

تأملات في زمن الاعتقال السياسي بالمغرب

 

تأملات في زمن الاعتقال السياسي بالمغرب




الاعتقال السياسي هو قضية من القضايا الطبقية الكونية التي ترتبط بشكل مباشر بالأنظمة الديكتاتورية التي تسعى دائما وراء احتكار السلطة لنفسها دون اشراك باقي الأطراف المعارضة،وبالتالي عزلها عن الساحة السياسية والاجتماعية عن طريق الاعتقال والزج بها في غياهب المعتقلات السرية والسجون،فما المقصود بالمعتقل السياسي؟
يحيل مفهوم المعتقل السياسي إلى كل شخص تم توقيفه أو حجز حريته بدون قرار قضائي بسبب معارضته للنظام في الرأي أو المعتقد أو الانتماء السياسي أو تعاطفه مع معارضيه أو مساعدته لهم او بسبب مبادئه السياسية أو دفاعه عن الحرية .
تميز مغرب ما بعد الاستقلال الشكلي بانتشار بطش الايادي السوداء من خلال الاغتيالات وغزارة الاعتقالات السياسية ضمن صفوف المعارضين للسياسة التي ينتهجها النظام القائم آنذاك،وخاصة المتسلحين بالفكر الماركسي الرامي إلى قلب البنية من خلال الثورة على صناع القرار الذين يحكمون بالنار والحديد تارة والمكر والخديعة تارة أخرى،لكون المغرب كان يعيش تحت سلطة الاستثناء،وكان الطابع المميز للممارسة السياسية هو القمع والاكراه والاستبداد،ومن هذا المنطلق آثرت الانطلاق من دجنبر 1959 حين تم اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي فحوكم الأول ب 6 أشهر و الثاني بشهر واحد،على خلفية تآمرهما لاغتيال الحسن الثاني آنذاك. كما شكلت أحداث مولاي بوعزة 1973 أرضية خصبة للاعتقال السياسي الذي طال مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية،بمعتقلات الترهيب السرية سيئة الذكر (درب مولاي الشريف بالدارالبيضاء،الكوربيس بذات المدينة،قلعة مكونة،تازمامارت،تمارة، دارالمقري بالرباط... ) بعد اختطافهم و التنكيل بهم ولعل المناضل أحمد بنجلون و سعيد بونعيلات خير دليل على التربص الرهيب الذي انتهجه النظام الحاكم وقتئذ،حيث تم اعتقالهما بالعاصمة الاسبانية مدريد من طرف الشرطة الاسبانية يوم 29 يناير 1970،لتتم إحالتهما على المغرب عبر تسليمهما للشرطة السرية المغربية،التي نقلتهما عبر طائرة عسكرية بعد أن تم تقييد يديهما إلى الخلف و ربطهما من الأرجل بسلسلة حديدية متكونة من 73 حلقة واستبدال غطاء الرأس بعصّابة سوداء مع الأمر بالجلوس تحسبا لقيام المعتقل بأي حركة ،لأن الشرطة كانت تعتقد بخطورته كما جاء على لسان أحمد بنجلون.وبقيا على هذا الوضع حتى بعد أن زجا بهما وباقي المناضلين الحركيين في المعتقل السري دار المقري،وفي هذا يقول أحمد بنجلون:"...أما المكان الثاني فإنه دار المقري،كنت أقضي في المكان الذي وضعت فيه الليل و النهار ويداي مقيدتان وراء ظهري،وسلسلة حديدية على رجلي ،كنت أحس في بعض الأحيان أن لدي عدة أدرع،لقد كان الاحساس بألم القيد طاغيا إلى أبعد الحدود وكنت أجد صعوبة في الانتقال من وضعية إلى أخرى".وأضاف قائلا:"لقد قضيت سنة تقريبا وأنا في الاعتقال السري تحت التعذيب و الاستنطاق قبل أن نخرج إلى العلن عند قاضي التحقيق،ونحال على المحكمة لكي تقول كلمتها فينا ،المهم هو أن أوفقير أخذ يسألني عن بعض الأسماء الحركية في تنظيمنا مثل الحاتمي و غيره".
أوفقير، العشعاشي، الدليمي،قدوراليوسفي،الحمياني...هم الجلادون الذين سهروا على الاختطافات الرهيبة والاستنطاقات الجهنمية الدموية لخيرة أبناء الشعب، سعيا وراء تشتيت التنظيمات الرامية حسبهم إلى إنشاء الجمهورية على أنقاض النظام القائم من خلال تحالف العمال مع الحزب الثوري استنادا على حرب التحرير الشعبية ،أما أفازاز وعبد اللطيف اللعبي... فهم الذين ترأسوا عدة محاكمات سياسية أفضت إلى الحكم على مئات الشباب الطامح إلى التغيير بقرون من الزمن في ظل محاكمات صورية،تحت ذريعة ملفات مفبركة وصورية كذلك ، إذ أنه رغم الاختلافات في التوجه الايديولوجي بين أعضاء التنظيمات إلا أنه تمت محاكمتهم على خلفية ملفات موحدة واعتقلوا بمعتقلات سرية واحدة،ولعل محاولة استئصال الاتحاد الوطني للقوات الشعبية،خلال 1973،أي بعد أحداث مولاي بوعزة أو ما يعرف بأحداث 3 مارس وهي أحداث ناجمة عن تسرب عناصر مغربية من الحدود الجزائرية إلى داخل الوطن،والتي حوكم بمقتضاها 160 معتقلا تحت صك اتهام مفاده أن هناك مؤامرة كانت تحاك ضد الأمن الداخلي للبلاد حيث تضمن أن هناك تدبيرا مسبقا تمثل في أنه كانت هناك تداريب على حمل السلاح أقيمت في بعض الدول العربية من قبيل سوريا والجزائر تحت إشراف الفقيه محمد البصري،سعيا وراء القيام بتمرد داخلي في الأطلس المتوسط،لأن الاحتقان الذي كانت تشهده البلاد سيساهم في ثورة قبائل الأطلس والجنوب بمجرد إطلاق أول رصاصة وبالتالي ستعمم الثورة على باقي جهات وأقاليم الوطن من شأنها أن تؤدي بتغيير النظام أو إسقاطه، مما استدعى محاكمة المعتقلين ال 160 محاكمة عسكرية بمدينة القنيطرة كان بطلها عبد اللطيف اللعبي الذي ترأس جملة من المحاكمات السياسية أهمها محاكمة مراكش 1971،والتي صنف خلالها المعتقلين ال 160 إلى معتقلين سياسيين ومعتقلين عسكريين،وبالتالي صدرت أحكام براءة في صفوف المعتقلين السياسيين وفي المقابل تراوحت أحكام المجموعة الثانية بين الإعدام وخمس سنوات سجنا نافذا،حيث تم إعدام 20 معتقلا،من المجموعة الثانية،أما أفراد المجموعة الأولى فرغم أحكام البراءة التي صدرت في حقهم كما غطتها الاذاعة و التلفزة المغربية و كذا جريدة العلم ووكالة المغرب العربي للأنباء، إلا أنه تم ضرب كل ذلك عرض الحائط حيث تم تجاوز كل الاعتبارات القانونية والإنسانية بعدما تم نقل المحكوم عليهم بالبراءة إلى المعتقل السري بتمارة بعدما وضعوا عليهم العصّابات و قيدوهم بالأصفاد،حيث قضوا 6 أشهر هناك،ومن ضمن هؤلاء نجد: (عمر بنجلون،محمد اليازغي،اسماعيل عبد المومني،أحمد بلقاضي،توفيق الادريسي،عمرالخطابي،مصطفى القرشاوي،عبد العزيز بناني... ) ليتم بعدها تقسيمهم إلى 3 مجموعات،أولاهما شكلت من 32 معتقلا،وهم الذين تمت إحالتهم على القضاء من جديد،على خلفية ملف مفبرك يتعلق بمحاولة اغتيال الحسن الثاني و التخطيط للهروب من السجن ،سعيا وراء احتلال السفارة المغربية بلندن، ليتم إعادتهم الى السجن المركزي بمدينة القنيطرة فأطلق سراحهم خلال شهر غشت 1974 وحوكموا في المحكمة الجنائية بالرباط خلال 1976 حيث أصدرت في حقهم أحكام بالبراءة،أما أفراد المجموعة الثانية فتم نقلهم الى المستشفى بغاية إطلاق سراحهم فيما بعد ومن بينهم محمد الحلوي و بلقاضي و محمد اليازغي الذي نقل حينها إلى مدينة افران ووضع تحت الإقامة الجبرية إلى غاية شهر يونيو 1974 وهو زمن الإفراج عنه،بينما وزع أفراد المجموعة الثالثة على معتقلات سرية أخرى من قبيل قلعة مكونة،درب مولاي الشريف،تازمامارت أو دار المقري...
إن الهاجس القمعي والتصفوي الذي خيم على النظام خلال 1973 أدى إلى اعتقال مايزيد عن 5000 مناضل اتحادي وزعوا على المعتقلات السرية سابقة الذكر، إذ احتضن درب مولاي الشريف ما بين 300 و400 مناضل اتحادي بينما تم الزج ب 1300 آخرين بالكوربيس بآنفا، بالاضافة الى محاصرة ومداهمة وإغلاق المقرات الحزبية الاتحادية سعيا وراء القضاء على التنظيم الذي أزعج النظام وأربك حساباته،لكن رغم الحسابات الدقيقة التي أجراها وخططها صناع القرار فإنها لم تأتي أُكلها لأنهم عالجوا الأزمة بأزمات أكثر حدة و تعقيد، وبالتالي أفسحوا المجال بمصراعيه أمام اليسار الجديد الذي خرج بقوة وبحجم كبير خلال هذه المرحلة، بداية من فاتح ماي 1973 والمتمثل في الحركة الماركسية اللينينية التي آمنت بقيام نظام جمهوري عن طريق التحالف مع العمال و الفلاحين والحزب الثوري ومنه خوض حرب التحرير الشعبية،والتي من شأنها إعطاء الكلمة النهائية للشعب للفصل في الاتجاه الذي يجب أن تسير وفقه حركة التاريخ،ولعل هذا المشهد سبق له أن حدث خلال 1965 حين النكسة التي شهدها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية،وعدم قدرته على تحمل مسؤولية مجابهة النظام شديد البأس،وخاصة بعد أحداث 23 مارس 1965 الدامية بشوارع الدار البيضاء التي قادها محمد أوفقير وقتئذ ،بفعل الانتفاضة الشعبية التي جاءت كنتاج لقرار بلعباس القاضي بمصادرة حق أبناء الجماهير الشعبية في التعليم مما دفع الجماهير الشعبية للخروج إلى الشوارع للدفاع عن مصالحها الطبقية، فعمد النظام كعادته على قمع الجماهير المنتفضة و شن حملة اعتقالات في صفوف الجماهير الشعبية كانت هي الأوسع مقارنة مع الفترة التي سبقتها من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال الشكلي حتى 1965،وبحكم الانكسار العميق الذي أصاب نفوس أبناء ألشعب بدأت تتشكل تنظيمات ماركسية لينينية مؤطرة بالفكر الاشتراكي العلمي، فكر الطبقة العاملة، تمثلت في منظمة إلى الأمام،منظمة 23 مارس ولنخدم الشعب،فبالنسبة للأولى خرجت من رحم التنظيم الذي كان يعرف ب "أ" وهي الجماعة التي انشقت على حزب التحرر والاشتراكية وهي التي تحولت فيما بعد إلى منظمة إلى الأمام ،و"ب"هي الجماعة التي سهر على تقعيدها مناضلين من قبيل (عبد اللطيف الدرقاوي، سيون أسيدون، كمال الحبيب، محمد باري ) التي تكونت بعد تكتل الأنوية الطلابية والتلاميذية وبعض القيادات السياسية اليسارية الشابة، إضافة إلى بعض الطلائع النقابية وبعض رموز الحركة الثقافية الثورية خلال الستينيات وخصوصا بعد أحداث 23 مارس 1965 والتي تم توحيدها خلال 1970، وبالتالي أنتجت ما يسمى بمنظمة 23 مارس، وبعدها منظمة لنخدم الشعب ذات المرجعية الماوية  (نسبة إلى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ )،الذي له كتاب صغير تحت عنوان "لنخدم الشعب"والتي لعب فيها كل من عمر الزايدي ومحمد شغو الدور الأكبر.
لقد تعرضت الحركة الماركسية اللينينية لتضييق خانق من لدن النظام القائم و المتمثل في الاعتقالات المتتالية بداية من 2 ،3 ،4،5،و6 نونبر 1974،وذلك نظرا للالتحام الكبير الذي شهدته الحركة مع الجماهير الشعبية،مما جعل النظام يهرع إلى الاعتقالات بالجملة في وسط هذه الحركة التي خرجت الى الوجود بقوة لم تكن متوقعة والزج بمناضليها في غياهب المعتقلات السرية من قبيل المعتقل سيء الذكر درب مولاي الشريف الذي كان في البدء عبارة عن مخفر رسمي للشرطة بالحي المحمدي لفترة من الزمن، بيد أنه تحول فجأة الى معتقل سري ،يسكنه عناصر من قوات التدخل السريع بالأعلى ويزج بالمعتقل السياسي بالطابق السفلي وهو عبارة عن مكاتب وممرات ضيقة،وكان يدخله المعتقل وهو معصوب العينين ومكبل بالأصفاد،مع الشتائم و السباب والقذف بالكلام السوقي والفاحش والضرب المبرح من طرف الجلادين، مما يجعله لا يعي الوجهة التي يسلكها خاصة إذا كان من مدينة أخرى بل حتى أن القليل من معتقلي البيضاء من كان يعي وجهته من قبيل المناضل الماركسي اللينيني صلاح الوديع الذي ناضل الى صفوف الجماهير من داخل منظمة 23 مارس،و الذي دخل درب مولاي الشريف في ربيعه 12 في زيارة لوالده المعتقل الاتحادي، ثم عاد إليه وهو معتقل سياسي في سنه 22 ،حين تم اعتقاله يوم 8 نونبر 1974 على الساعة 11و20 دقيقة صباحا،والذي قضى في نفس المعتقل 17 شهرا قبل إحالته على المحاكمة ،تحت سياط الجلاد بمختلف تلاوين التعذيب والتنكيل، كالتجريد من الملابس المدنية وتعويضها ببذلة كاكية والتي لايحق له استبدالها إلى غاية الخروج من المعتقل كما أنه كان محروما من الاغتسال طيلة المدة التي قضاها هناك مع التجويع المستمر، اللهم ما يسمح له بالبقاء على قيد الحياة، حيث كان يقدم للمعتقلين خبزة "معجنة" مع كوب من الشاي في الصباح الباكر، والقطاني خلال الظهر و الليل،الحمص،الفاصوليا،الأرز أو الفول،كما يجبر على حلق الرأس،وعصب العينين ومنعه من الكلام مع أي كان حتى في حالة رغبته في قضاء حاجته البيولوجية كان لزاما عليه طلب ذلك من "الحاج"لأن الحراس من داخل الزنازين كان يطلق عليهم لقب الحاج،فكل هؤلاء الحُجّاج، كانوا يمثلون الجلاد والجزار الذي يسهر على تلقين خيرة شباب المغرب حصص من العذاب المبين داخل الزنازين والمتمثلة في جملة من اشكال التعذيب من قبيل الخنق بالماء الممزوج بالصابون أو أي مادة أخرى من مواد النظافة من قبيل "كريزيل"،ثم هناك الفلقة المباشرة،أو"البيروكي":أي يتبث المعتقل من يديه ورجليه على عمود أفقي يقف على عمودين آخرين،حيث يكون رأسه على مقربة من الالتصاق بيديه ورجليه،وظهره مقوسا ويضرب على رجليه في تلك الوضعية،وهو أقصى أنواع الضرب خاصة حينما يتم بشكل بطيء مع إضافة الملح والماء على الجروح،حينها يصبح المعذُب غير قادر على المشي،وفاقدا الإحساس بقدميه،كما أن هناك ما يعرف بالطائرة أو"الطيَارة" وهي وضعية "البيروكي"مقلوبة.
إن هذه الأنواع من العذاب التي تعرض لها الآلاف من الشباب المناضل داخل زنازين التعذيب بالمعتقلات السرية من قبيل دار المقري، قلعة مكونة، أكدز،"الكومبليكس" ،تازمامارت،تمارة،الكوربيس...،درب مولاي الشريف الذي استقبل خلال شهر يناير 1975 ما يزيد عن 600 معتقل،وهي المرحلة الاولى المرتبطة بالتحقيقات و الاعتقالات التي طالت مناضلي الحركة الماركسية اللينينية من أجل القضاء عليها كما تصور جهاز المخابرات السرية،وهنا تمت إحالة مجموعة من المناضلين الى المحكمة التي أدانتهم بأحكام ثقيلة تراوحت بين 5 سنوات و الإعدام ،إذ كان عددهم 169 بعد الغربلة و التصفية خلال 1975، حيث أدت بكثير من المناضلين الى مفارقة الحياة بعد صمودهم تحت نيران آلة التعذيب الجهنمية والامتناع عن تقديم أي اعتراف من شأنه أن يضر بالتنظيم الذي ينتمون إليه، وفي هذا المضمار نذكر المناضل عبد اللطيف زروال، القائد الشيوعي، الأممي، الثوري وهو قيادي وعضو الكتابة الوطنية لمنظمة " إلى الأمام " الذي استشهد تحت سياط الجلادين بالمعتقل السري درب مولاي الشريف حيث كان آخر ما نطق به "أموت فداك يا وطني"، وكان ذلك يوم 14 نونبر 1974 ،وكذا رفيقه أمين التهاني المسؤول والقيادي في نفس التنظيم، ابن وجدة البار الذي تم اختطافه وزوجته يوم 27 أكتوبر 1985 واقتيادهما لنفس المعتقل حيث استشهد يوم 6 نونبر 1985 من جراء التعذيب الذي تعرض له منذ لحظة القبض عليه، كما لا ننسى استماتة عبد الله زعزاع في الصمود وهو من قيادي منظمة الى الامام كذلك،والذي حوكم بالمؤبد الى جانب أبراهام السرفاتي، عبد الفتاح الفاكهاني،بلعباس المشتري،وعبد الرحمان نوضة.
وعلى سبيل التذكير فإن حصص الاعتقال والتعذيب والتنكيل لم تستثني العنصر الأنثوي حيث تم اعتقال المناضلة الديناميكية في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاتحاد المغربي للشغل ومنظمة إلى الأمام، والتي اختطفت في 16 يناير 1976، لتتذوق بعدها ألوان من التعذيب بدرب مولاي الشريف ، بمعية رفيقاتها فاطمة عكاشة وربيعة لفتوح، والسيدة بييرادي ماجيو الإيطالية المساندة والمدعمة لمناضلي الحركة الماركسية اللينينية بالمغرب،ومنه فقد حوكمت سعيدة المنبهي مع مجموعة أبراهام السرفاتي أو ما يعرف بمجموعة 138 بخمس سنوات سجنا نافذا زائد سنتين بتهمة الإساءة إلى القضاء حيث خاضت مع رفاقها مجموعة من الإضرابات عن الطعام توجت بالإضراب اللامحدود عن الطعام وذلك لسن قانون المعتقل السياسي وفك العزلة عن الرفيقات وعن المناضل إبراهيم السرفاتي.والذي أدى الى وفاتها بعد يومها الرابع والثلاثون يوم 11 دجنبر 1977 بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء. بالإضافة إلى فاطنة البيه التي اعتقلت يوم 17 ماي 1977 وتم الزج بها في درب مولاي الشريف بمعية خديجة البخاري،ماريا الزويتني،وداد البواب،لطيفة اجبابدي،نكية بودا،بعدما تم اختطافها لمدة 7 أشهر دون أن تعلم أسرتها مكان تواجدها وقضائها 3 سنوات سجنا دون محاكمة،20 يوما في سجن اغبيلة بالدار البيضاء و المتبقى من الأيام بسجن مكناس،والتي عرضت عن المحكمة بعد خوضها لإضراب عن الطعام دام 20 يوما،ليتم إحالتها بعد ذلك على المحاكمة التي قضت بإدانتها بخمس سنوات سجنا تحت تهمة تهديد أمن الدولة، فيا للعجب شابة تهدد أمن الدولة وشاب يسقط النظام استنادا لقوة السلاح ،لكن أي سلاح وأي تهديد؟
لقد استعمل النظام القائم خلال سنوات الجمر والرصاص كل قواه وأجهزته العلنية والسرية من أجل الحفاظ على كرسي الحكم عن طريق النار والحديد، مداهمات اعتقالات بالجملة،اغتيالات،إعدام في صفوف الحركة الماركسية اللينينية والقوى الاشتراكية والشيوعية عامة،التي كان من شأنها تهديد مصالح النظام وذيوله تحت مبررات درائعية ،اتهامات ثقيلة ومحاكمات صورية مجحفة ب 22 و30 سنة، بالمؤبد تارة والإعدام تارة أخرى دون احترام لأي قانون كان سماويا أو وضعيا وعدم مراعاة أي بند من بنود حقوق الانسان.
أعدم عمر دهكون و21 مناضلا منهم الملياني ومصطفى جدايني...،استشهد عبد اللطيف زروال والتهاني أمين تحت سياط الجلاد ،سعيدة المنبهي ،ومولاي بوبكر الدريدي ومصطفى بالهواري بعد الاضراب اللامحدود عن الطعام،حوصرالاتحاد الوطني لطلبة المغرب واعتقل مناضلوه كممت الأفواه المنادية بالحرية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية،تم انتهاج سياسة التدجين والاحتواء ونزع إنسانية الإنسان لكن ماذا بعد ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال نتركها للقارئ من أجل التأمل العميق في التضحيات الجسام التي قدمها شباب كله تطلع لبناء بلد ديمقراطي متقدم يتيح الفرص للجميع ينبني على المشاركة والإشراك لكافة القوى المجتمعية فأين نحن من هؤلاء؟

معاريف بريس


www.maarifpress.com



لمن تقرع الأجراس”وثيقة نادرة للفقيد: أحمد بنجلون

 

 لمن تقرع الأجراس”

وثيقة نادرة للفقيد:  أحمد بنجلون

بعد اعتقاله بمدريد ” إسبانيا” سنة 1970 و تسليمه رفقة “سعيد بونعيلات” إلى السلطات المغربية، سيتعرض أحمد بنجلون للتعذيب القاسي طوال تسعة أشهر من مكوثه في مخفر التعذيب السري ” دار المقري” ، ليتم بعد ذلك نقله إلى سجن القنيطرة ثم مراكش، حيث ستتم محاكمته و إصدار حكم في حقه ب10 سنوات سجنا نافذة، و سيطلق سراحه يوم 12 ـ 12ـ 1975 أي ستة أيام قبل اغتيال شقيقه الشهيد عمر بنجلون.
قيل الكثير منذ وفاته عن بشاعة التعذيب الذي تعرض له، مع أنه كان منسيا قبل رحيله و يعيش ورفاقه تهميشا مقصودا من المشهد السياسي والإعلامي بسبب مواقفه السياسية. وهكذا بقي يعاني المرض في صمت نتاجا لما تعرض له من تعذيب جسدي بشع. و معاناة نفسية رافقته 45 سنة، كان قويا في مواجهتها و مواجهة أثارها.
ورغم أنه كان يقر أن التعذيب الذي تعرض له لا يمكن وصفه، فإنه كان كل ما أتيحت له الفرصة، يذكر مقالا وصف فيه بدقة ما تعرض له في ” دار المقري ” من تعذيب وحشي رفقة ما يقرب 193 مناضلا من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المتهمين بالتحضير لعمليات مسلحة و الذين سيحاكمون في محاكمة مراكش سبتمبر 71 بأحكام قاسية.
“لمن تقرع الاجراس” هو عنوان المقال، اقتبسه الراحل من رواية ل “أيرنيست هيمينغواي” وقد أذاعته إذاعة الاتحاديين بليبيا ” التحرير” في سنة 72 و نشر في بعض الجرائد الصادرة في فرنسا.
لم ينشر المقال في أي جريدة أو مجلة في المغرب، و قد عثرتُ عليه في مجلة ” إفريقيا اليوم” و هي مجلة فصلية كانت تصدرها الجمعية الفرنسية للصداقة و التضامن مع الشعوب الأفريقية. والتي قامت بإصدار عدد خاص عن المغرب ـ العدد 19 سنة1980. المقال نشر تحت عنوان ” عابر من دار المقري ـ شهادة عن التعذيب في المغرب” بدون الإشارة إلى كاتبه.
وقد قال الفقيد أحمد بنجلون عن المقال ـ الشهادة ـ في أحد الحوارات:
” قد كتبت في سنة 1972 نصا باللغة الفرنسية ترجمته إلى العربية، أي فقط سنتين بعد تعرضي لعذاب لا يمكنكم أن تتصوروا بشاعته، كتبت النص المذكور حين كنت أقضي عقوبة الحبس لمدة عشر سنوات بالمركز السجني بمدينة القنيطرة، كان هناك الحجاج الذين لازمونا في دار المقري وفي سجن مراكش وسجن القنيطرة.. كانوا يحرسوننا، وهو ما كان يعني أننا كنا دائما تحت رحمة أزلام أوفقير الذين كان بإمكانهم في أية لحظة إعادتي إلى دار المقري أو أي مكان آخر للاعتقال والتعذيب السري، لقد واتتني الشجاعة في سجن القنيطرة لكتابة نص أصفه بدون تواضع زائف بأنه نص جيد باللغتين الفرنسية والعربية وذلك على المستويين: الغنائي واللساني، ضمنته وصفا ليوم في معتقل دار المقري أشبه بما كتبه الكسندر سولجنستين عن الكولاك.. تحدثت فيه عن الكيفية التي كان يجري بها التعذيب، وعنونته ب “لمن تقرع الأجراس؟…” حيث كانت البداية صباحا في دار المقري عندما يقرع الجرس على مجموعة من المعتقلين يصلون إلى نحو سبعين شخصا ممددين من أثر المعاناة كانوا يتساءلون: لمن يقرع الجرس كل مرة لكي يساق إلى التعذيب.. كنا نحاول جعل أنفسنا أقل حجما، حيث كنا نتكون على أنفسنا.. وكما يحدث في خنادق الجبهة كنا نأمل مثل الأنذال أن تكون الرصاصة التي هي الجرس، قد قرعت لشخص غير الأنا.
بعثت بالنص المذكور سنة 1972 عن طريق بعض الأصدقاء وبعض الموظفين الذين أوصلوه إلى الإذاعة الليبية، صوت الحرية، التي أذاعته في حلقتين متتابعتين، في ذلك النص كنت قد أدنت الذين عذبوني، وعلى رأسهم: محمد العشعاشي، والحاج سفيران، وعبد المجيد القباج، ورئيس آخر: الحمياني، الذي بلغت به الوقاحة إلى حد تقديم شهادته أمام المحكمة …” انتهى تصريح أحمد بنجلون.
في ما يلي الشهادة ـ المقال ـ كما نشرته مجلة ” إفريقيا اليوم”:


هذه مقتطفات من شهادة مناضل تم اعتقاله سنة 1970، و قدم إلى محاكمة مراكش في يونيو 1971 مع 160 من رفاقه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وتكشف هذه الوثيقة بكل دقة المعاملة اللا إنسانية التي يعاني منها كل مناضل تقدمي داخل سجون النظام المغربي.
إن من واجب الرأي العام الديمقراطي التنديد بمثل هذه الأساليب الوحشية ومرتكبيها، والتضامن مع كل المعتقلين السياسيين المغاربة من أجل إطلاق سراحهم.

عابر من دار المقري ـ شهادة عن التعذيب في المغرب:

بالأمس القريب، كان الخدم يصعدون بالأطباق النحاسية المحملة بالأكباش المشوية و المحمرة إلى الوزير ” المقري”، و من بعد إلى الأمراء و الأميرات، قبل أن تصبح دار ” المقري ” مسماة ( بالشفيرة ) عند الشرطة المركزية السرية ” ب. ف. 2 “.
لم نر النور ليل نهار، لأن أعيننا كانت معصوبة بعصابات سوداء. كنا ممتدين جنبا إلى جنب، كل واحد على غطائه المفروش فوق الإسمنت، ونشيد الطيور في الطبيعة و طقطقات خافتة للصحون المعدنية التي كنا نشرب فيها الحساء…
كل هذه الأصوات التي كانت تبدو آتية من بعيد، كانت تؤذن بقرب وصول الجلادين و أصوات الحرس التي أصبحت معروفة لدينا مع مرور الزمن، كانت تأمر بتناول الفطور، فيستوي من كان قادرا على الإستواء، في صليل من القيود والسلاسل، لأن الأيدي كانت مغلولة.. ثم تمسك يد بالكتف، تارة بلطف و أخرى بعنف، لتنبه إلى وجود الصحن عند القدمين.. و الكثير كان يزدرد الحساء ليقضي على ذوق الصابون الذي أشرب له بالأمس.. و البعض منا لم تكن له شهية الأكل لأسباب ليس من الصعب تصورها، و آخرون كانت أذرعهم مشلولة، لأنهم بقوا معلقين ساعات… و لعدة أيام على التوالي، حتى أن الحراس هم الذين يطعمونهم بأنفسهم.
أما الذين سمعوا أو حتى عاشوا تجربة المناضلين الذين سبق لهم أن نزلوا ضيوفا في هذه القاعة، من الطابق الأول من دار المقري، الواقعة في مزرعة على بعد 9 تسعة كلم من الرباط في طريق “زعير”، قد فرضوا على أنفسهم إمساكا مطولا عن الطعام، آملين أن يغمى عليهم خلال التعذيب، و لو أن هذا الإغماء غالبا ما كان يتعذر بالرغم من قساوة التعذيب.
يرن الجرس الكهربائي، وتهتز معه قلوبنا و أمعاؤنا و كل أعصابنا.. بنفس السرعة.. لقد وصلوا، فلم يبق أي وقت للتفكير، و يحدث الفراغ في رؤوسنا و العدم في نفوسنا، كأننا من عالم آخر… و في كل صباح كنا نتساءل بمنتهى الفزع: لمن تقرع “الأجراس”؟

لمن تقرع الأجراس؟

لم يكن لدينا في مواجهة هذا الموت البطيء، الذي كان يرفض بكل خبث وتعنت أن يصل إلى نهايته، إلا عقيدتنا الثورية وعزيمتنا و إيماننا الراسخ بالشعب و الجماهير.. و كان المرء يتمنى بدافع من غزيرة البقاء، التي يمليها علينا الجسد أكثر من العقل، أن يقرع الجرس لغيره.
“انهض يا فلان” يقولها بعض الحراس بنغمة من الأسى أحيانا، وغالبا بنغمة التشفي والتهكم.. ثم يدير المفتاح في القفل الذي يثبت السلسلة في أحد قضبان النافذة. ثم صليل الحديد الرهيب يبتعد شيئا فشيئا مع خطوات المعذب المكبل الرجلين، حتى يتلاشى في الدروج الملتوية المؤدية إلى القبو. ثم يرن الجرس مرة ثانية.. و ثالثة.. مرات متكررة.. حتى تبقى القاعة نصف فارغة.
وها خليط من الأصوات يندلع كالرعد من كل جانب، طرقات حادة تحدثها الهراوات عندما تنزل بكل ما لدى الجلادين من قوة على أخماص الأقدام.. و صيحات طويلة و صرخات و أنين و حشرجات و آهات و جعجعات… تقسم يمينا أنها منبعثة من حنجرة جمل يمر عليها السكين.
أما الذين لم يقرع الجرس بالنسبة إليهم بعد، فقد كانوا يتكبدون نفسيا عذاب رفاقهم و لو كانوا يخبئون رؤوسهم تحت الملاءات. غير أن دورهم لا يفتأ أن يصل، حيث كانت القضية دائما تنحصر في بعض الدقائق…

المجزرة المعتمة:

والقبو كان معملا حقيقيا للتعذيب، يشتغل فيه الجلادون بتسلسل، كل واحد حسب اختصاصاته. و كانت بسقف القبو حلقات مثبتة تتدلى منها حبال التعذيب.. اليدان و الرجلان موثقة وراء الظهر، معلقة بالحبل المدلى من الحلقة، والوجه متجه نحو الأرض. عشرون أنسانا كانوا يتركون في هذا الوضع لمدة ساعات متتالية كأكباش مهيأة للسلخ.
وبعد أقل من خمس دقائق من بداية التعذيب كان أنين التعذيب يبدأ بالتصاعد، لأن المرء كان يشعر أن ذراعيه تنفصلان عن جسده، و أن خناجر تطعنه وتمزق لحمه.. و عندما لا تبقى أي حلقة شاغرة للتعليق، يمدد المعذبون على مقاعد طويلة و يلفون بالحبال، كي تثبت أجسادهم عليها بإحكام.. وبعدما يقيد: المعصمان، والرسغان، والذراعان يعتنقان الركبيتن المثنيتين، يدخل قضيب حديدي بين انثناء الذراعين و الإبطين، و بعدما يرفع القضيب و يوضع على كرسيين أو على أي شيء يمكنه أن يحدث فراغ متر أو أكثر من العلو، يجد المعذب نفسه معلقا في الهواء، منثنيا على نفسه، و ذقنه على ركبتيه، و قدماه متجهتان نحو السقف، و رأسه على الأرض..
وحينما يحتل كل واحد مكانه، يشرع في التعذيب ب: الماء والخرقة ” الجفاف”، والصابون، والكهرباء، والضرب على أخماص الأقدام، و كان الضرب والجلد هو التعذيب المفضل لدى الجلادين الذين كانوا يجدون فيه نشوة هستيرية..
وذات صباح كان أحد الرفاق في قاعة الطابق الأرضي، التي تنفذ إليها جميع الأصوات المنبعثة من القبو، قد بدا في عد الضربات بالهراوة، والصرخات التي كانت تصحب كل ضربة يتلقاها أحد إخوانه، كان يعرف صوته جيدا، فوصل إلى عدد 375، قبل أن تغرورق عيناه بالدموع… فاستمرت الضربات طويلا بعد ذلك، لكن الصراخ انقطع..
وبعد الجلد يأتي التبريد والخنق بالماء، فيرتفع المقعد الطويل من جهة القدمين، لكي يصبح رأس و صدر المعذب المربوط على المقعد، منغمسين كليا في جفنة ماء، يبقى الرأس غارقا في الماء الذي يبدأ مستواه في الانخفاض بعد 30 ثانية أو أقل.. و حينما يشرب المعذب كمية لا بأس بها من: ماء، و كريزيل، و بول رجال الشرطة، وقيء من سبقوه إلى الجفنة، يعيد الجلادون المقعد إلى وضعه الأول، لكي يصبح الرأس في الهواء الطلق.. ولكن ما يفتأ المعذب أن يشهق حتى ينغمس رأسه في الجفنة من جديد، وبمجرد ما يستنفذ القليل من الهواء الذي تمكن من استنشاقه، سرعان ما يعود إلى الاحتفال بصبره وعناده و روح تضحيته بشرب الكوكتيل تلو الكوكتيل حتى الانهيار التام، ثم يعود المقعد إلى وضعه الأول، فتزعزعه يدان قويتان، ليتقيأ المعذب ما ابتلعه من ماء ممزوج بالقاذورات، ثم الضرب على الأقدام، ثم الكهرباء في الأذن و أصابع القدم و الجهاز التناسلي…ثم جفنة الماء من جديد، و أحيانا الجفنة والكهرباء في آن واحد، ثم الجلد من جديد وهكذا دواليك…

الخلود في الجحيم:

أما الدرجة الثانية فهي التعليق على قضيب الحديد، وكان أثره المباشر هو شل الذراعين والرجلين، ثم بطبيعة الحال الضرب على أخمص القدمين و الفخذين، ثم الكهرباء الذي يصعق جسم المعذب، الذي يهتز بقوة حتى يسقط على الرأس، لأن قضيب الحديد لم يثبت بإحكام على قاعدتيه..
ولكن أقسى ما في العملية هو الخنق بالخرقة والصابون، بحيث يوضع “الجفاف” على فم وأنف المعذب، الذي يكاد يلفظ نفسه الأخير، قبل أن تكف اليد الآثمة عن ضغطها لتترك شيئا من الهواء يتسرب من بين خيوط الجفاف.. لكن بمجرد ما يبدأ المعذب بالرجوع إلى الحياة ـ الموت ـ تفرغ اليد الآثمة الماء من زجاجة على الجفاف، وتحك الصابون الذي كانت قد ذرته عليه، ليعطي رغوته الكثيفة، والمعذب آنذاك يبدأ في ابتلاع رغوة “التيد” بعد استنشاق الهواء.. وحينما يحلو للجلادين أن يرفعوا الخرقة، فكأنهم فتحوا زجاجة الشمبانيا لتخرج رغوة الصابون كأنها حمم بيضاء لبركان ثائر، لأن المجال الحيوي للمعدة و الأمعاء والرئتين الملتهبتين أضيق بكثير من أن تسع كل هذه الرغوة المتكاثفة.
وإن الوطنيين والتقدميين والثوريين سيذهبون دوما روادا للفضاء، على متن سفينة ” أبولو ” التي صنعتها لهم أيها الملك العصري، الذي يشجع العلوم و الآداب و الفنون.. و أقول ” أبولو ” لأن هذا هو الاسم الذي أطلقه جلادوك على الدرجة الثالثة، و الأكثر همجية من كل عمليات التعذيب السابقة، حيث يبقى المعذب معلقا لمدة ساعات من ذراعيه و رجليه بواسطة حبل، كأنه كبش مذبوح ينتظر السلخ، وكأن ملايين السكاكين كانت تنغرز في لحمنا و تقطعه إربا إربا، وكل خلية من خلايا أجسادنا، وكل ليفة من ألياف عضلاتنا كانت تتمزق تحت وطأة عذاب لا يعرف حدا، وغالبا ما كان الضرب في ” أبولو” تعذيبا مضادا، لأنه كان يحول آلام كل الجسم إلى الأقدام وحدها، لكن الجلادين تفننوا في هذه العملية، لدرجة أنهم كانوا يشرحون أخمص الأقدام المنتفخة بشفرات الحلاقة، ويذرون الملح في الأخاديد المنهمرة بالدم، ويروونها بالكحول، و بعد هذه المجزرة البربرية.. كانوا يستأنفون ضربهم و جلدهم على هذا اللحم البشري الملتهب نارا و المسحوق سحقا.. و كان الدم يتناثر تحت صدمة الهراوة الصاعقة على وجه الجلادين، الشيء الذي كان يضاعف من شراستهم و هياجهم، و كانوا يضيفون على المعلق الذي قد يبدو لهم (صلب الرأس)، كرة حديدية يزيد وزنها على 20 كغ، و كرسيا يجعل الذراعين يشكلان زاوية قائمة مع الظهر.. و كانت الدقيقة الواحدة من التعليق في ” أبولو” تبدو لنا خلودا في الجحيم…

وكانت تصل بهم وحشيتهم حتى إلى جر تلك الأجساد المنهارة المتألمة، من الأرجل للصعود بها، ورؤوسها تصطدم بكل درج.. و عندما يتكدس المعذبون من جديد في الصالون، و لم يصل إليه أي ضجيج من الخارج إلا نقيق الضفادع، كنا ننسى معه أنين يوم آخر من عذابنا..
و في كل مساء يأتي ”الدكتور”، الذي هو في الحقيقة ممرض ضابط شرطة يحمل اسم “الحسوني”… والذي كان يتبجح بأنه ساهم مساهمة فعالة في اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، لمعالجة المعذبين، لتهيئتهم للعمليات التي كانت تنتظرهم في الغد.. و غالبا ما كان الدواء أكثر ألما من الداء، إذ كانت الأقدام المنتفخة و المتقطرة بالدم، تغمس في أوان من الماء الساخن، تشعر به كأنه حامض الكبريت، والأفخاذ تغرز بإبر ”البينيسيلين”، وضد ”الطيطانوس” و ضد التعفن…
أما الظهر و البطن و الصدر وأجزاء أخرى من الجسم الموشومة بالسياط، والمكوية بجمرة السجائر و السيكار، فكان علاجها الوحيد هو الكحول، الذي يحدث فيها التهابا إضافيا.
أما الممرض البيطري، فحينما كان ينهي دورته كان يعلن لنا بنغمة متواضعة خبيثة، قبل أن ينسحب إلى قاعة، أخرى: ” هذا ما بوسعي أن أفعله لمعالجتكم، أما غدا في الصباح الباكر إن شاء ألله فستعالجون بأكثر فعالية “.
وبالفعل كان نشيد البلابل يعلن دائما وأبدا بدون انقطاع، يوم تعذيب آخر.. و كنا نسمع نفس الصرخات و نفس الأنين و نفس الخليط من الأصوات، و ذلك لمدة شهور متتالية، لدرجة أننا كنا نسمع يوم الأحد ـ الذي كان يوم راحة بالنسبة إلينا كذلك ـ أبناء الحراس القاطنين بجوار بناية ”دار المقري” في مزرعة الليمون، يلعبون لعبة التعذيب و يقلدون استنطاقات رجال البحث، و صرخات مختلفة للمعذبين.. لكن غالبا ما كنا نسمعهم في نفس الوقت يتشاجرون للتسابق على تمثيل دور المناضل المعذب..

أعدها للنشر: يوسف الطاهري
صحح بعض الأخطاء المعجمية، مع إضافة علامات ترقيم: مصطفى بوهو





الثلاثاء، 17 نوفمبر 2020

النقيب ذ. إبراهيم صادوق ومحاكمة مراكش 1971

 المحامي المبدع والمثقف الوطني وكتابة السيرة الذاتية

( محاولة في النقد الادبي)
* بورتريه النقيب ذ. إبراهيم صادوق: البورتريه شكل من الكتابة يهدف إلى رسم الصورة الشخصية بكيفية شبيهة ومماثلة. وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح في مجال النحت، ثم تَمَّ استثماره في الأدبيات الروائية التي تُعْنـَى برسم الشخصيات ووصفها وتحديد ملامحها الجسدية والنفسية والمعرفية والأخلاقية...
والباعث على محاولة هذا البورتريه صداقة ثقافية وإنسانية قديمة وممتدة تفوق عقدين من الزمن، ثم انتخاب النقيب الأستاذ إبراهيم صادوق رئيسا للهيئة الوطنية للعدالة بما يحمله هذا الانتخاب من معاني ودلالات بصفته إضافة نوعية للرأسمال الرمزي الذي راكمه الرجل على امتداد عقود، وعلى واجهات وجبهات متعددة؛ إذ تطمح الهيئة إياها إلى مواجهة كافة التحديات التي تواجه مهنة المحاماة، وخاصة منها ما يرتبط بالواجهة التشريعية: مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع قانون المسطرة الجنائية وقانون مهنة المحاماة، وهي مشاريع سوف ترتهن المهنة في المقبل من الأيام.
ومن الموائم لفت الانتباه إلى أن البورتريه الذي تحاوله هذه السطور عبر اللغة والكتابة يستثمر في بنيته آليات البورتريه ومواصفات الشهادة التي يكتبها صديق عن صديق له رافقه في الكثير من المحطات داخل اتحاد كتاب المغرب وخارجه. ولا شك أن بعض مكونات هذا ا لبورتريه يمكن أن يتعرف عليها القارئ عبر سطور السيرة الذاتية للنقيب والتي صدرت في شهر ماي عام 2007 تحت عنوان: في رحاب المحاماة: مقاطع من سيرة ذاتية. وكلمة " المقاطع" الواردة في هذا العنوان تشير استباقا إلى بعض مناقب الرجل وخصاله: التواضع والبساطة؛ كما تشير ثانيا إلى أن الكتاب سيرة غير مُكْتَمَلَة ويقدم فقط شذرات من حياة صاخبة ومفعمة بالاشتباكات السياسية والثقافية والمهنية؛ وتومئ ثالثا إلى نزوع الكتابة بكيفية أكيدة صوب شعرنة خطابها السردي، أي تعبئة هذا الخطاب بالمكونات الجوهرية للشعر.
النقيب ذ. إبراهيم صادوق من الجيل الذي تشكل وعيه ومداركه في السبعينيات من القرن الماضي، وعلى امتداد أزمنة الجمر والرصاص والغبار. وكان صديقا للمرحوم عبد السلام المودن و رفيقا له في الأفكار والمبادئ والمواقف. واسم عبد السلام المودن لا يشير إلى شخص، بقدر ما يشير إلى رمز ودلالة، أي إلى علاقة تاريخية نعرف طموحاتها وآمالها وانكساراتها وخيباتها...
النقيب مثقف منخرط و متميز مبنى ومعنى. فما عناوين هذا التميـُّز؟
1. الاستمرار والمثابرة في الدفاع عن قضايا الوطن فوق ما يربو عن أربعة عقود؛ وعلى رأس هذه القضايا أسئلة الديمقراطية ودولة العدل والحق والقانون....
2. لم ينحصر اهتمام النقيب في المجال الحقوقي - القانوني، بل استمر متدخلا وفاعلا، من موقع وبموقف، في الحقول المجتمعية والثقافية والسياسية والنقابية. ويدل ذلك على الانخراط في نضال متعدد الجبهات ومتنوع الواجهات، متكامل في الرؤية التاريخية المتحكمة به، والتي تعود في شق منها إلى تكوينه وعلاقاته مع الفاعلين في الحقول التي شكلت مضمار تدخلاته..
3. الارتباط بأسئلة الوطن وقضايا المواطنين بناء على جدل النظرية والممارسة. وهو ما منحه قوام كاريزمية نادرة في حقل المحاماة كما في مجالات العمل ضمن المجتمع المدني والثقافي، والسياسي قبلهما.
4. بمقتضى جدل النظرية والممارسة، واظب النقيب ولازال يواظب على ممارسة فاعلة أنتجت، ولا تزال تنتج، فكرا فاعلا يفتش باستمرار عن إجابات مبدئية وواقعية لأسئلة عملية تطرحها مجالات الحق والعدل والمحاماة وعموم الحقل القانوني. وفي عملية التفتيش هذه، يبتعد النقيب عن الشطط النظري والجنوح في الخيال والنوايا الواهمة، ويتسلح بالصمود أمام جميع الكوابح والمثبطات التي تفرمل حركة التاريخ والمجتمع والمؤسسات والأفراد.
5. يؤمن النقيب بأن الممارسة معيار الحقيقة. وكل ممارسة يجب أن تكون مبدئية ومرنة وواضحة وشفافة. ولا تستوي المبدئية مع التصلب والانغلاق، كما لا تستوي المرونة مع المساومة والمهادنة.
6. تتوكأ ممارسات النقيب صادوق وسلوكاته اليومية على مرجعية ثقافية يتوحد فيها الأصيل والحديث. فالرجل يحفظ القرآن عن ظهر قلب وقرأ مئات النصوص الروائية ويستظهر الغزير من الشعر القديم والحديث، هذا علاوة على ما تمتلئ به حافظته، أي ذاكرته، من نصوص ومساطر قانونية...إنه باختصار مثقف قريء.
7. يرفع النقيب صادوق عاليا لواء الحوار في جميع مقامات الخلاف والنزاع والتدافع. وهو رجل حوار بامتياز. يحاور كأنه يرافع، ويرافع كأنه يحاور بلغة تثير الإعجاب في فصاحتها وبيانها اللذان نعدمهما لدى الكثير ممن يزعمون الانتساب للحقل الحقوقي أو الثقافي. لقاءات عديدة جمعتنا في أنشطة اتحاد كتاب المغرب بمراكش تشهد بذلك، مثلما تشهد بأناقة وعمق تدخلات الصديق المرحوم الأستاذ عادل بن حسين عضو هيئة المحامين بمراكش، وهو مثقف تونسي من طينة متميزة وعيار جدير بالتقدير والإكبار.
8. يظل النقيب صادوق، في جميع المحافل، نموذج المثقف المحاور المتسامح المتميز بجملة مناقب وخصال تؤثت اسمه: فهو فقيه محامي صبور ومتواضع وخلوق ومتفائل وكريم بار وخير وسموح وشجاع ومخلص ووفي لرفاقه وزملائه وأصدقائه ومبادئه...وفي لروح أبيه الحاج الطاهر الذي نعرف الكثير عن شيمه ومناقبه إن نحن انهمكنا في قراءة سيرة الزميل النقيب إبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة - مقاطع من سيرة ذاتية، وهي السيرة التي نأمل أن ترى النور في طبعة ثانية بعد نفاذ طبعتها الأولى منذ فسحة غير يسيرة من الزمن.
* منذ شهر ماي عام 2007 وبروح إبداعية عالية، أصدر الأستاذ النقيب إبراهيم صادوق كتابا أدبيا تحت عنوان : في رحاب المحاماة – مقاطع من سيرة ذاتية. وعنوان الكتاب يومئ في شقه الأول إلى موضوع الحكاية ومجالها : المحاماة، وهو في شقه الثاني يدرج هذه الحكاية ضمن جنس أدبي متميز : السيرة الذاتية.
والكتاب ذو أهمية لا تقدر بثمن. ولا تعود أهميته فقط إلى أننا ننصت في سطوره إلى كل ضجيج الوطن العربي، من المغرب إلى فلسطين فالعراق، كما لا تعود هذه الأهمية إلى التجربة الذاتية الواسعة الأمداء التي يحكيها، إذ في الكتاب شيء من الحب وأشياء من المحاماة والعدل والحق والقضاء، وإنما ترتبط قيمته وأهميته، علاوة على ما سلف، بقضية جوهرية قد تلخصها كلمة واحدة : السبق، إذ في حدود ما نعرف، فالأستاذ النقيب إبراهيم صادوق أول المشتغلين في حقل المحاماة والعدل والقضاء الذي تجاسر على كتابة سيرته الذاتية، ولم يجرؤ أحد قبله، داخل الحقل الحقوقي، على المبادرة بمثل هذه المغامرة الأدبية الجميلة جدا.
ونأمل أن يكون هذا الصنيع الأنيق والمتألق حافزا يلهم المهتمين والمهمومين بقضايا الشعب والوطن من رجال العدل والقضاء والمحاماة، فيبادروا بكتابة سيرهم الذاتية التي لا نشك إطلاقا في أنها ستكون مفيدة للجميع، بداية من المحامين الشباب، وصولا إلى كافة الفاعلين في الحقل الحقوقي، والثقافي عموما.
ويشرفنا من الموقع الثقافي الذي نحن فيه، أن نتذكر ونحن على مشارف شهر ماي 2020 لحظة ولادة هذا المنجز الأدبي، الذي أعقب أخاه البكر: مهددات الأمن الوطني والقومي. ويسعدنا أن نحيي روح الأبوة العالية لدى النقيب الأستاذ إبراهيم صادوق، طالما أنه أبى إلا أن يهدي كتابه إلى ابنته الغالية الطفلة الوديعة: غيثــة. وما نطقت به يمينه في الإهداء، يترقرق في لغة شعرية باذخة تقول:
"إلـى من تجدل ضفائر ضياء القمر
حتى ينير بهو أزمنة قادمــة
إلـى بنيتي غيثــة".
وبمثل هذه اللغة الشعرية التي تحمل الكثير من النوايا الأدبية الجميلة، تتوشح سيرة الأستاذ النقيب. نقرأ في الصفحة الثامنة والستين :
"كانت البلاد قد خرجت لتوها من المغامرة الدونكيشوطية للصخيرات والطائرة، وأعلنت مغربة 74 وانطلاق المسلسل الديمقراطي، وزحفت في مسيرة سلمية نحو الصحراء المغربية وأصدرت قانونا انتخابيا جديدا، وانتعش فيها الحقل الفكري والثقافي مع العروي والجابري وسالم يفوت وحميش وبنيس واللعبي وزفزاف والسطاتي وغيرهم..."
الكتاب جدير بالقراءة في مقامات الاحتفاء والاحتفال، إذ شكل مبادرة لامعة في حقل كتابة السيرة الذاتية، وإذا كان ماء الحكي في هذه السيرة يترقرق دافقا، فإن صلبها وترائبها يظلان مفتوحين على احتمالات المعنى وممكنات السرد أو ما سماه هيجل: البرامج السردية. وهذا الانفتاح هو ما يمنح كتاب: في رحاب المحاماة تعددية تحض على القراءات المتعددة من جهات نظر ديمقراطية ومتسامحة. والنظر بعين العدل في هذا النص يبيح الشهادة بتميزه ومتعته وإثارته للدهشة القائمة على المزاوجة بين جماليات المتخيل وعنف الواقعي.
* من الواضح أن سيرة النقيب الذاتية موصولة بخلفية تاريخية كاملة التحديد والتعيين؛ وهي لا تهم فقط التاريخ الشخصي، وإنما تهم بالأحرى التاريخ المجتمعي لمغرب ما بعد الاستقلال، وتحديدا لما تواضع الكثير من الكتابات على تسميته سنوات الجمر والرصاص والغبار. هكذا نقرأ في كتاب النقيب أمورا عن محاكمة مراكش 1971 التي توبع فيها وطنيون من العيار الوازن: محمد الحبيب الفرقاني وعبد الرحمن اليوسفي ومحمد اليازغي وعبد السلام الجبلي والفقيه البصري وعمر دهكون والحسين المانوزي والفقيه الفكيكي... وغيرهم؛ كما نقرأ في سطورها (من ص 96 إلى ص105) محاكمة مجموعة مراكش عشية انتفاضات يناير 1984؛ وهي المحاكمة التي توبع فيها مناضلون وطنيون غيورون على كرامة شعبهم ومنهم: محمد بلبرك و عبد الصمد الطعارجي ومحمد عباد وبنيوب جمال و مولاي رشيد الإدريسي وخالد نارداح ومحمد المصريوي والحراث حسن ومصطفى الحميدي وعبد اللطيف العطروز والشهيد مصطفى بلهواري والشهيد مولاي الطاهر الدريدي وعبد العزيز معيفي وعبد الرزاق النيكر ومحمد اليونسي... وغيرهم، وعددهم ستة وثلاثون، ممن ضمتهم قاعة المحاكمة وهي بالمناسبة نفس القاعة التي جرت فيها أطوار محاكمة 1971.
وحين متبعة قراءة تفاصيل هذه الصفحات، يتأكد بوضوح أن السيرة تفترق عن التاريخ والخطاب السياسي على مستويين: قوام المستوى الأول: اللغة، فلا وجود لنص سيرذاتي إلا بلغة نثرية تختلف عن اللغة النظرية التقريرية، ذلك أن السيرة الذاتية، كما الشعر، لعب في اللغة وبها ومعها، وسجال ضد "اللغة الفقيرة المتكلسة الجاهزة". وضمن المستوى الثاني، تقوم السيرة الذاتية في المتخيَّل، أي تلك القدرة على اشتقاق عوالم متعددة من المعيش اليومي، تتجاوز المرئي وتنفيه وتجعله أكثر وضوحاً. والمتخيل السيرذاتي، بداهة، يغتني ويتطور بالنفاذ إلى العالم الداخلي للإنسان، والمليء بالأحلام والكوابيس وبمفارقات الحياة والموت. المتخيل، في نهاية المطاف، شكل من المعرفة، يبدأ من معرفة ويفضي إلى أخرى مستجدة. ومن السخف اعتبار المتخيل لعبة ذهنية شاردة، فذلك يسمى: الوهم؛ وهو من اختصاص الكتبة الزائفين، وليس من تقاليد محامي مبدع ومثقف وطني كتب سيرة ذاتية جديرة بالاعتبار والقراءة والمقاربة والتأويل.
د. عبد الجليل بن محمد الأزدي
مراكش 26 أبريل 2020.


كل شيء عن ما وقع ويقع في المغرب من انتهاكات حقوق الانسان: رحيل المناضل الاتحادي احمد خيار

كل شيء عن ما وقع ويقع في المغرب من انتهاكات حقوق الانسان: رحيل المناضل الاتحادي احمد خيار: توفي هذا الصباح بقسم الإنعاش بمستشفى ابن طفيل بمراكش المناضل الاتحادي الفذ أحمد خيار. و قد ذاق هذا المناضل الكبير مرارة الاختطاف و الاعتقا...

حياة على حد البندقية والقضبان سيرة المناضل عبد ا...

سنوات الرصاص والاغتيالات والمحاكمات ابتداء من 1956-1963: ا حياة على حد البندقية والقضبان سيرة المناضل عبد ا... : حياة على حد البندقية والقضب...